التربية تبدأ العام الجديد ب"تهديد" المعلمين

هذا المقال مخصص للتعليق على التعميم الذي أصدرته وزارة التربية والتعليم وتسلمت المدارس نسخة منه بشأن توجيهات ديوان الخدمة المدنية والتي " تقضي باتخاذ الإجراءات القانونية الصارمة ضد الموظفين العموميين في حال مخالفتهم القوانين واللوائح أو صدور أية إجراءات قضائية عليهم نتيجة قيامهم بأعمال الشغب أو المشاركة في تخريب الممتلكات العامة أو الخاصة أو المشاركة في التجمعات والإعتصامات غير المرخص بها وجميع الأعمال التي تزعزع الأمن والاستقرار " كما جاء منذ فترة في تعميم الديوان .
لكن قبل التعليق على التعميمين لعل من المناسب أن أروي قصة شهدتها بنفسي بطلها شخص أعرفه كان يعمل معلما بإحدى المدارس الإبتدائية .تعود الحادثة إلى نحو عشرين سنة عندما أخبرني ذلك الشخص إنه قرر أن ينال حقه بيده بعد أن تأخرت ترقيته ، فقد كان يطمح أن يترقى إلى مدير مدرسة مساعد بعد سنوات طويلة من العمل معلما ولكن حدث أنه لم ينل الترقية وبدلا عن ذلك أوكل إليه في بداية العام المدرسي تدريس تلاميذ الصف الأول الإبتدائي وهم بطبيعة الحال أطفال صغار يدخلون المدرسة للمرة الأولى بينما أولياء أمورهم يأملون أن ينالوا قسطا وافرا من التعليم ضمن برنامج معلم الفصل الذي كان قد أثبت أنه حقق نجاحا جميلا بعد عدة سنوات من تجربته ميدانيا .
كنت ذات يوم زميل مهنة لذلك الشخص وأعرف إخلاصه وقدراته العالية في التدريس ، لذا فوجئت به عندما قال لي إنه منذ أن تسلم التلاميذ "لم يعلمهم شيئا" وأن كل ما يقوم به هو الجلوس على كرسي عند باب الفصل وأنه إذا تحدث مدير المدرسة معه أو لامه "رد عليه بلسان هذا طوله" ، فدهشت وسألته عن الأسباب فقال لي إنه انتظر الترقية طويلا وأنه "يشتغل من قلب" و لم يجد وسيلة ليفرض رغبته على إدارة المدرسة ومن ثم الوزارة سوى هذه الطريقة ، فلمته على ذلك كثيرا ولم أتركه إلا بعد أن وعدني بفك "إضرابه" في اليوم التالي مباشرة .أتذكر أنني حينها سألته عن موقفه لو أنه أودع ابنه مدرسا مثله ورآه يعود إلى البيت كل يوم خالي الوفاض كيف سيكون ، حينها فقط انتبه إلى الخطأ الكبير الذي ارتكبه أو بالأحرى "الحماقة" التي ارتكبها .
استذكرت هذه الحادثة لأبين الخسارة الكبيرة التي يمكن أن تطالنا جميعا لو أن المعلمين أضربوا عن العمل يوما واحدا أو حتى حصة واحدة ، لذا لا أتردد عن دعوة المعلمين إلى الابتعاد عن فكرة الإضراب عن العمل أو حتى التلويح بالإضراب لأنهم يكونون بهذا قد ارتكبوا خطأ كبيرا في حق الطلبة الذين هم أبناؤنا جميعا .وبحسبة بسيطة فإن عدد الأيام الفعلي للتعلم في مدارسنا هو الأقل بين كثير من الدول في العالم بسبب الإجازات الرسمية وغير الرسمية ( الإجازات التي يفرضها بعض الطلبة أو أولياء أمورهم في بعض المناسبات ) ما يعني أن كل يوم دراسي يضيع على الطلبة ويكون المتسبب في ذلك المعلمون يرقى إلى مستوى الجريمة .
ما أرجوه من المعلمين الابتعاد عن هذه الأداة دون أن أنكر عليهم حقوقهم السياسية كمواطنين وحقوقهم في الترقية وزيادة المعاش و حقوقهم في المطالبة وفي تعديل أوضاعهم ، ولكنني أؤكد دعوتي إلى الحرص على عدم أن تؤثر ممارساتهم تلك على "حقوق" الطلبة فيكون مثلهم مثل زميلهم ذاك الذي سعى إلى حقه على حساب حقوق التلاميذ الصغار الذين لم يكن لهم أي ذنب ولم يكونوا سببا في تأخر ترقيته .
طبعا لست في حاجة إلى أن أعرج على قصص كثيرة أبطالها "معلمون" أقنعوا أنفسهم بأن عليهم أن يعملوا "على قد الراتب " فصاروا يهملون في عملهم ويقصرون في حق الطلبة الذين هم أمانة بين أيديهم ولا يترددون عن زيارة الطبيب للحصول على إجازات مرضية كاذبة وغير هذه من حيل وألاعيب لا تليق بهم كونهم التحقوا بهذه المهنة التي هي أساس عمل الأنبياء والمرسلين .
أما تعليقي على قرار ديوان الخدمة المدنية فأقول إن الديوان (رغم اعتقادي أنه دخل في مساحة ربما لا تخصه أو غير معني بها ) إلا أنني بالمقابل أعرف أنه لم يخطو هذه الخطوة إلا بعد أن طفح الكيل فما حصل من إعتصامات وإضرابات وأعمال شغب وتخريب للممتلكات العامة والخاصة في السنوات الأخيرة لا بد من وضع حد له لأنه يعود بالضرر على الجميع وعلى الوطن حتى لو بدا أنه يطالب بحقوق مشروعة ، دون أن ننسى أنه تبين أن بعض الذين اعتصموا وتظاهروا وشاغبوا وخربوا كانوا من غير العاطلين أومن غير الباحثين عن عمل أو من غير ذوي العلاقة .
أما تعميم وزارة التربية والتعليم فمن الطبيعي أن تبدأ به العام المدرسي الجديد وتنبه العاملين لديها بتعميم الديوان بل ينبغي أن تبدأ بهذه الخطوة التي تؤكد حق المعلمين في المطالبة المشروعة وحقوقهم السياسية التي يكفلها لهم الدستور كمواطنين ولكنها تؤكد أيضا واجبهم تجاه الطلبة الذين هم أمانة في أعناقهم .
لست من الداعين إلى حرمان المنتسبين لوزارة التربية والتعليم من حقوقهم ومن الأدوات السياسية المتاحة لهم اليوم كمواطنين ولكن من دون أن يؤثر أي تحرك لهم (أو مشاركة) على حقوق الطلبة والتزامهم الأخلاقي تجاههم فالمعلم قدوة ، كما أن انتسابه لهذه الوزارة يفرض عليه سلوكيات يصعب فرضها على غيره ، فتورط معلم في أنشطة من شأنها زعزعة الأمن والاستقرار مسألة يصعب تفهمها سواء من باب أنه يعمل ولديه مصدر دخل أو من باب أخلاقيات و التزامات المهنة .
ترى هل نحظى بعام دراسي لا يعود بالضرر على أبنائنا الطلبة ونحن نمارس حقوقنا المشروعة ونوظف الأدوات الديمقراطية المتاحة لنا ؟ أتمنى ذلك

م ن ق و ل

بمناسبة بدء العام الدراسي الجديد

توبيك اكثر من رائع يا كابو

وموضوع في غاية الجدية

ومشد للانتباه

ومنظرين مزيدك الرائع

تقبل خالص تحيتي