اوباما

"أنا أشعر دائماً أن أمريكا تمنح الفرص لجميع المجتهدين والجادين".. هذه جملة لم يقلها "أوباما" وهو يعيش نشوة الانتصار التاريخي، وإنما خرجت من بين شفاه المهزوم "جون ماكين" وهو يعلن لأنصاره أن الرحلة انتهت هنا.
هذه هي الجملة المفتاح التي تحلل طبيعة ذلك الكيان الذي لايزال يملك معظم مفاتيح السيطرة على العالم، أمريكا هي أمريكا؛ لأن "أوباما" القادم من طينة سوداء صار رئيساً لها، ولأنه فعل ذلك في دولة عمرها في هذه الدنيا بضع شذارت من السنين "أمريكا نالت استقلالها عن بريطانيا عام 1776" فقط في مائتي عام وفوقها 32 عاماً، هضمت أمريكا القادمين إليها من شتى أنحاء الدنيا، وتشكلوا جميعا في عجينة هي أقرب إلى مادة واحدة –مع بروز بعض النتوءات- لتصنع دولة عظمى بحق مهما كنت تمتلك آراء سلبية تجاهها فلايمكنك إلا أن تقدر أنها احترمت -بشكل كبير وليس مطلقاً طبعا- أهم قيمتين.. "الإنسان" و"العلم".
وأنت تنظر إلى عيون المبهورين بانتصار "أوباما النادر" والاستثنائي في تاريخ العالم كله وليس في تاريخ أمريكا فحسب، عليك أن تتذكر أن السود في الولايات المتحدة لم يكن لهم حق التصويت إلا في عام 1957 فقط، أي أنه منذ 51 عاماً لاغير كان المواطن الأمريكي الأسود مثله مثل أي مواطن مصري يفرط في حقه في التصويت.. الاثنان غير موجودين ولا قيمة لهما، وقبل هذا بعامين فقط أي في عام 1955 كان القانون الأمريكي ينص على أنه إذا ما صعد رجل أبيض إلى أتوبيس فعلى الرجل الزنجي أن يقف ويترك له مقعده ليجلس هو بدلاً منه!
أمريكا كانت نموذجاً قحاً للعنصرية، ولايزال فيها إلى الآن كثير من هذه العنصرية، فالسود في بلاد العم سام هم الأقل عمراً مقارنة بالبيض، وهذا يعكس خللاً في الرعاية الصحية بين الطرفين، ولاتزال فكرة الزواج المختلط بين السود والبيض هناك نادرة جداً وأشبه بأن يتزوج عندنا في مصر "علي" ابن الجنايني بـ"إنجي" بنت الباشا "هذا يحدث فقط في فيلم رد قلبي!".. لكن الفارق المهم والأكبر والأرقى أن أمريكا تعرف أنها كذلك وتحاول علاجه، تارة تفعل ذلك بشكل ظاهري لايٌحدث أثراً.. وتارة تلجأ إلى جراحة تطهيرية عميقة وعنيفة مثلما تجلى في وصول "أوباما" الأسود إلى البيت الأبيض، بينما تتعامى دول أخرى عن الجروح والتقيحات التي تلتهمها، وتصر على أن الحال الذي وصلت إليه هو سدرة المنتهى، ليتضح لك ببساطة أن الفارق –مثلاً- بين مصر وأمريكا ليس 7 ساعات فقط حسب التوقيت العالمي لجرينتش، وإنما آلاف السنوات الضوئية حسب التوقيت العالمي لتقدم البشرية.
"أوباما" يصبح رئيساً لبلاده وعمره 47 عاما، وبعد 45 عاما من المظاهرة المليونية الضخمة التي قادها المناضل الأمريكي الأسود "مارتن لوثر كينج" لنبذ العنصرية في بلاده، وبعد 40 عاما من مقتل "لوثر كينج" نفسه على يد أبيض عنصري متطرف، كل الأرقام السابقة تلعب في الأربعينيات وهي سنين تعد فتات الفتات في عمر الأمم، هذه أمور وصفات تجعل للأمريكيين كل الحق في أن يفخروا بأنفسهم، فانتصارهم هذه المرة ليس عسكرياً مزعوماً على "صدام حسين" أو على القاعدة ، وإنما هو أكبر انتصار يمكن أن يحققه أي مجتمع.. أن ينتصر على نفسه وعلى ميراث العنصرية والكراهية والظلم الذي ينتقل من جيل لآخر.
انتصار "أوباما" هو انتصار عالمي للإنسانية كلها، حتى لو لم تتغير السياسة الأمريكية -وهذا وارد- وحتى لو ظل الانحياز الأمريكي لإسرائيل مستمراً -وهذا أكيد- وحتى لو لم يصبح العالم أكثر أمنا وأكثر ابتعادا عن الحروب الكونية -وهذا محتمل-.. لكن يظل الانتصار الأوبامي هذا محملا بقيم لا نعرفها في مصر والعالم والعربي، ولاتعرفها دول أخرى كثيرة فيما تؤكدها أمريكا بين الحين والآخر، وهي أنه حتى لو كنت فقيرا أسود تستقل المواصلات العامة ولاتمتلك سوى يقينك بنفسك وسعيك واجتهادك وإصرارك على أن تصبح رمزا.. ستفعل ذلك ولو بعد حين.
هذا هو الفارق بين أمريكا ومصر، ليس في أن الأولى لديها انتخابات ديمقراطية وفرص صعود للمجتهدين، وإنما في أن أمريكا اختارت لها رئيساً أسود وعمرها في الدنيا 232 سنة، بينما مصر المعمرة صاحبة السبعة آلاف سنة غير قادرة على انتخاب رئيس لنادي الزمالك!

شكرا على هذا الموضوع الرائع

موضوع كويس يا سها تقبلى تحياتى